حينما كنت ما زلت طالبا يافعا في الثانوية،كان لدينا مدرّس مادة تربية اسلامية، ما زالت صورته عالقة في ذهني لما له من مواصفات وعلامات يتميز بها عن باقي المدرسين، كان طويلا ، نحيل البنية وفي نفس الوقت ذو كرش عظيم يتدلى، كانت لحيته الكثّة الصهباء تسترسل على صدره،وكان يأتي الى الدوام بشماغ احمر مسبّل على كتفيه بدوون عقال،ويتنعّل نعال المتقشفين الزاهدين بالدنيا و ملذاتها وبهارجها، ولا استبعد انّه كان يخصف نعله بنفسه، واما اكثر شيئ جعله راسخا في مخيّلتي هو انّه كان كثيرا ما يبصق بلغما غليظا في قمامة الصف دون حرج من نظرات الطلاب اثناء سواكه.بللبيليبل
امّا ارائه فكانت غريبة عجيبة ، فمثلا لا انسى ذلك اليوم الذي كان فيه درسنا عن صفات الله، اتذكّر يومها رسم لنا جدولا على الصبورة مقارنا صفات الله بصفات الانسان وكانت كل دلائله نقلية لا عقلية، وهذا هو الجدول، وقسما بالله اني لاابالغ
وللاسف الشديد، وقتها لم اكن اعلم انه لدينا نواب هم على اهبّة الاستعداد لاستجواب رئيس الوزراء في قضايا التعدّي على الذات الالهية، والا لكنت اول شخص يطرق باب الدكتور وليد وهايف وان لم يكن نائبا في حينها بعد.سسبيبيسب
كان هذا الاستاذ يجيد اسلوب الغمز واللمز والتحرّش بالاخرين وبامتياز، كان يستقطع من كل حصة دراسية ما لايقل عن عشر دقائق للدخول في مواضيع خلافية يستهدف بها جميع الملل والنحل ونعتها بالشرك والزندقة، وللاسف الشديد كان ينجح باستثارة واستدراج العديد من الطلبة للدخول معه في نقاشات ومناظرات لرد اتهاماته التي كانت تطال عقائدهم ، فكاننت تتحول الساعه الدراسية الى حلبات مناظراتية طائفية، لا اتذكر اني شاركت ابدا في هذه النقاشات لا لشيء، ولكن لاني كنت اعلم ان هذا الاستاذ كان اية في السذاجة بحيث لا تملك إلا أن تضحك حد البكاء! و كنت اراه هو و امثاله، بل حتى بعض من كان يجادله من الطلبة، كانو مجرّد حفظة , آلات تسجيل , ولا ينشدون من النقاش اي فائدة.بي
كان الاستاذ يحترمني في البداية ويقدّرني للامانة ولم يشح علي بدرجات الشفهي الخمس، ربّما لانّي لم احاججه قط ، ولم اجادله في افكار تطرح- قد اختلف معها-في الفصل، وكنت اكتفي فقط بالتبسّم حين يشتعل فتيل الجدال بينه وبين الطلبة.بيلكن لم يستمر ودّه ورضاه طويلا، في احد الايام وكعادته شطّ وحلّق بعيدا عن موضوع الدرس ليتحدّث عن قضية البراءة من المشركين والزنادقة والملاحدة وانّه يجب عدم تولّيهم وتقديرهم،ثم شرع بضرب الامثلة وبدأ في كيل الشتائم على عالم جليل له اسهاماته،وكان يقول:س
من المؤسف جدا ان يتم تبجيل وتقدير زنادقة وملاحدة واطلاق اسمائهم على شوارع ومستشفيات،من منكم يا اخوان لا يعرف بن سينا الطبيب الملقّب بالشيخ الرئيس الذي قلّ ان تجد من لا يعرفه، ولكنّك لا تجد من يعرف عقيدة هذا الزنديق الكافر، انه من العار علينا ان نطلق اسمه على على الامكنة في البلد رغم ضلاله، يجب التبري من هكذا شخصيات وتبيان ضلاله للمسلمين
وقتها انا كنت توني مسوي بحث عن بن سينا لمادة المكتبات، واعتقد اني كنت قاري معلومات كافية عن الرجل، فقاطعت الاستاذ
انا: عفوا يا استاذ هل قرأت كتب الشيخ الرئيس؟
الاستاذ: لا لم اقرأ كتبه، ولن اقرأها، فهي كتب ضلال وانا غني عنها
انا: طيب دام انك يا استاذ لم تقرأ كتبه، ولم تعاصره فتحادثه وتناقشه فيما اشتبه عليك من ارائه، شلوووووووووووون تكفره وتزندقه؟
الاستاذ: لست انا من كفّره، كبار مشائخ الاسلام هم من كفّره-ذكر عدد من المشائخ منهم الغزالي ،
انا: طيب يا استاذ ،مهما كان، مسألة التكفير ماهي بالشيء الهيّن،كيف تحكم على كفر انسان بناءا على تأويلات لكلام بن سينا بدل قراءة كلام بن سينا نفسه هو، تبقى اراء العلماء تأويلات لكلامه، قد تصيب وقد تخطئ
الاستاذ: لا، بارك الله فيك يا اخي، هؤلاء مشائخ عظام ،اذا كانت تأويلاتهم تخطئ، فمن ارائه التي تصيب؟ أحمد البغدادي مثلا؟
أنا: لا بس يظلون بشر،يعني مثلا انت قلت هؤلاء مشائخ عظام، وذكرت منهم ابو حامد الغزالي، طيب اذا كنت تعتبر ابوحامد الغزالي من العظماء، ما تدري ان شيخ الاسلام كفّره؟
الاستاذ: اعلم بذلك بارك الله فيك، وانا لم اطرح اسمه تعظيما له، ولكن اردت ان بين لك ان تكفير بن سينا غير مقتصر على مدرسة معينة
انا: طيب على اي اساس تم تكفيره؟ شنو قال؟
الاستاذ: على ما اعتقد انّه انكر المعاد،لا يعترف بالبعث والنشور، ومنكر المعاد كافر باجماع فرق المسلمين
انا: على ما تعتقد؟؟؟ يعني مو متأكد؟ يا استاذ، انا توني خالص من بحث قصير لمادة المكتبات،وتطرقت لهذا الموضوع في بحثي، وبعد بحثي تبين لي انه لا يوجد لابن سينا في كتبه المعروفة اي انكار للمعاد، ولكنه يختلف في طبيعة هذا المعاد،واللي قروله قد يكون فهموه غلط
الاستاذ: مهما كان، من تمنطق فقد تزندق، وهو فيلسوف ضال، وانا اثق برأي المشائخ والعلماء،لا برأي طالب ثانوية
انا: طيب، انت تعتبره زنديق وملحد، وانا اعتبره عظيم من عظماء الحضارة، شلمشكلة اذا قدّرته وكرّمته؟ اترك عنك سالفة كفره او عدمها، وخلنا نفترض انه كافر، شل مانع اننا نكرمه ونخلد ذكراه نظير انجازاته واسهاماته للحضارة الاسلامية؟
اهو: لا ، يجزاك الله خير انت هكذا تدخل في ناقض من نواقض الاسلام
انا: شلووون؟
الاستاذ: من تبين له كفر او الحاد احد الناس، ولم يكفره،،فهو كافر مثله
انا: يعني اللي ما يكفّر بن سينا كافر؟
الاستاذ: اذا تبين لك ذلك فانت ملزم بتكفير بن سينا و بتكفير كل المشركين وعداوتهم وبغضهم ،الله ألزمك بالتوحيد , ولا توحيد إلا بتكفير المشركين ومن شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر لأنه لم يكفر بالطاغوت ومن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله.ي
انا: احلى كلام، يعني يكون دمي مباح في حال عدم ايماني بكفر الشيخ الرئيس، استاذي العزيز
اللي تكفره وتستكثر عليه تسمية مستشفى باسمه، اتم حفظ القران الكريم في سن العاشرة،ودرس الفقه والفلسفة والعلوم الطبيعية وهو لم يتجاوز السادسةعشرة،واشتهر كطبيب حاذق يحج اليه الامراء والوزراء وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة،تجاوزت مصنفاته المئة في الطب والهندسة الفلك والفلسفة والدين، كتابه الطبي المشهور" القانون" كان يعد اهم مرجعا طبي في اوروبا وكان يدرّس في أعرق الجامعات هناك،حتى قيل ان الفرنسي ليوناردو دافنشي قد تأثر كثيرا به ، باختصار لو اعدد اسهاماته للانسانية ما راح اخلص ،العالم كله مدين لانجازات بن سينا في العديد من الميادين حتى لقّبه البعض بامير الاطباء و المعلّم الثالث بعد ارسطو والفارابي
هذا هو بن سينا.. فبالله عليك ماذا قدّم للبشرية من كفّره ومن لم يعتبره اكثر من زنديق؟
الاستاذ: انت زوّدتها كثير وبدى كلامك يمس مشائخ كبار، كفاية جدال ودعنا نعود للشرح
انتهى
----------------------------
ما جعلني اتذكر هذه القضية، اليوم وانا بمكتبة جرير ، سمعت شخصين وهم يتحادثان عن هذا الموضوع، احدهم معجب في بن سينا ويود قرائة كتبه، والاخر يحاول ثنيه عن ذلك بنفس اسلوب استاذي العظيم مدعيا ان كتبه الفلسفية كتب ضلال. بيبيبللبيل
قبل فترة تطرق الاخ برفسور حمادو الى قضية ظهور بن سينا في شعار جمعية الصيادلة الملكية البريطانية، حيث تسائل في نهاية البوست عما اذا كنا مستعدين لتكريم رموز الغرب تقديرا لدورهم في خدمة البشرية كما فعلوا هم مع بن سينا، وانا اقول لبرفسور حمادو، اذا كان ابن سينا ابن الحضارة واحد اعمدتها يكفّر من قبل البعض ويستكثر عليه تسمية مستشفى باسمه بل حتى يتم تكفير من لم يكفّره، فكيف تريدهم ان يكرموا باستور النصراني الكافر .. صدق من قال
امة ضحكت من جهلها الامم